وعدت إلى بيتي .. وقد خطت أقدام الليل الثقيلة على بدني المهترىء لتجعله ركاماً من تعب ..
أشعر وكأنما السماء أطبقت فوق صدري ، وكأني أحمل فوق ظهري أحمال الجبال .. خارت قواي ، وتكدَّرت نفسي ، وضعفت خطاي ..
أحمل نفسي تارة ، وتحملني أخرى ، فأقول لها : متى أنتهي من هذه الأعمال المضنية التي أكلت عمري من أطرافه ؟ متى أشعر بالراحة والسكون ؟ أليس من حقِّ البركان أن يخبو ، والعاصفة أن تسكن ، والموج أن يستقر ؟!
تزجرني نفسي : أليس لأبنائك عليك حق ؟! ألا يستحقون منك هذا العناء ؟ لتبني لهم مستقبلاً زاهراً وتوفر لهم عيشاً كريماً ؟ كفاك ما دهاك في ماضي عمرك ، أتريد لهم حياة كماضيك ؟!
إنه ليس من حقِّ الشمعة أن تسأل : لماذا أحرق أطرافي بأطيافي ؟ إنما عليها أن تُضيء ، وكفى !
رضيت بانتصار فكرة التضحية على نفسي التي سئمت تكاليف الحياة .. ورددت برضى :
الحمد لله .. الحمد لله ..
سرت في أوردتي ومضة فرح ، ورعشة سرور ، فسكنت .
وقبل خطوات من دخولي منزلي ، ليضمني بين ضلوعه بأحبتي .. وإذا بالفاجعة !
أرسلت بصري ليجول بين شباب اجتمعوا كالذئاب في ظلمة الليل ، وقد سكنت أعين الناس وغطُّوا في سبات عميق .. فقادتني عيوني إليه ..
أهذا ولدي معهم ؟! أيعقل أن يكون فلذة كبدي بينهم ؟!
وما تلك بيمنه يا عيني ؟
يا لمصيبتي !
إنها سيجارة قذرة تندس بين أصابعه كالحية ، تلدغه بين شفتيه كالعقرب ، تعبره إلى صدره .. تسري في شرايينه .. وتنفث سمومها بين ضلوعه كالكير ...
لهفي عليك يا بني !
كيف وصلَت إليك ؟ وماذا جلبت عليك ؟ إنها بوابة الدخول إلى عالم السوءات .. فهي خطوة البداية ، وتأت بعدها خطوات المخازي !!
أمل تحوَّل في لحظة إلى ألم
شعرت بأني بنيت قصري فوق الرمال ، وغرست بذري في أرض لا تنبت إلا المحال
أحسست بدوار يعصف بي ، وبحسرة مرَّة في قلبي ، وشعرت ببركان الغضب يجتاحني ، وبزلزال القهر يعبرني .. تبعثرت أحلامي مع دخان سيجارته !
سقطت عيني في عينه ، فتفجرت عيوني بالدموع !
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روح تسيل فتقطر
أركبته بجواري ، وذهبت به إلى جوار بيتي .. انسلَّت رائحة الدخان من بدنه لتستقرَّ في أنفي كسهم مسموم غُرس في حبَّة القلب .
طلبت منه أن يبقى في مكانه حتى أعود إليه ..
دخلت إلى بيتي في عجل .. أخذت ما وقع تحت يدي من طعام وشراب ، وعدت إليه وقد ذهب به الروع كلَّ مذهب !
لم أنبس ببنت شفة .. غمست وجعي في صبري ، وأسررت بألمي لنفسي ولم أبده له .. لم تفضحني سوى زفراتي !!
توجهت به من جدة إلى بيت الله العتيق بمكة ..
وهناك حيث تتنزل الرحمات ، وتقال العثرات .. طفنا ببيت الله الحرام ، تناثرت خطايانا مع خطواتنا .. هكذا شعرنا !
صلينا ما كُتب لنا .. تخففنا من أحمالنا .. وخلعنا ما على ظهورنا من هموم وغموم ..
جلسنا سوياً ، والكعبة أمامنا ، والمصاحف بأيدينا ، والطائفون يحومون بجوارنا في مشهدٍ لا أجمل منه ! يفيض بالأنس ، وينطق بالطهر ، وينبض بالنقاء ..
وفي لحظة من لحظات الصفاء ..
قام الابن صوب رأس أبيه يجرُّه إليه ، ويقبِّله عليه ..
ودموع الندم البريئة تغسل آثار الخطيئة ..
وعاد الابن الصالح ليغرس بذرة الأمل في صحراء اليأس .. وقد كان !
|