إنكم ـ أيها المجاهدون ـ مسئولون عن سمعة الجهاد ، وـ تبعاً لزاماً ـ عن الدين وسمعته ، وتقدير المفاسد والمصالح فيما تقومون به ، لأنكم باحثون عن الحق ، وبه تعدلون ، ومن أجله تناضلون ، فهل من وقفة صادقة مع سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قضية اهتمامه وعنايته بسمعة الدين وأهله ، لنرى كم هو التقصير كبير من بعضنا نحو ديننا ، والمرد في ذلك إلى الجهل بالحكم والأحكام ....
ففي صحيح البخاري في كتاب المناقب عن جابر رضي الله عنه قال : غزونا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا ، وكان من المهاجرين رجل لعاب ، فكسع أنصاريا ، فغضب الأنصاري غضبا شديدا ، حتى تداعوا ، وقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال المهاجري : يا للمهاجرين ! فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " ما بال دعوى أهل الجاهلية ؟! " ثم قال:" ما شأنهم ؟ " فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري . قال : فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم :" دعوها فإنها خبيثة " وقال عبد الله بن أبي ابن سلول : أقد تداعوا علينا ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث ؟ لعبد الله . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم:" لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه !"
وأخرج أبو داود في سننه في كتاب الجنائز عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قيل له : يا أبا حمزة غزوت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، غزوت معه حنينا ، فخرج المشركون فحملوا علينا حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا ، وفي القوم رجل يحمل علينا ، فيدقنا ويحطمنا ، فهزمهم الله ، وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام ، فقال رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم : إن علي نذرا إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه . فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجيء بالرجل ، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يا رسول الله ! تبت إلى الله . فأمسك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يبايعه ، ليفي الآخر بنذره ، قال : فجعل الرجل يتصدى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليأمره بقتله ، وجعل يهاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقتله ، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يصنع شيئا ، بايعه فقال الرجل : يا رسول الله ! نذري ؟ فقال :" إني لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفي بنذرك " فقال : يا رسول الله ! ألا أومضت إلي ! فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم :" إنه ليس لنبي أن يومض !!"
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يشف ما في صدره ولم يُذهب غيض قلبه بقتل الرجل في الحالين ، وإنما ترك ذلك لمصلحة عظيمة وهي أن تبقى سمعة الدين والحاملين له والمدافعين عنه ، فوق أن تُخدش أو توصم بما ليس فيها ... إنها مصالح شرعية يجب الأخذ بها والعمل لها قبل أن تنجرف نفوسنا للأخذ بثأرها من أعدائها ، فالمصالح الشرعية العامة مقدمة على حظوظ النفوس الخاصة ..
أتسأل ـ أيها الكرام ـ من يقدِّر هذه الأحكام والنصوص إلا العالم بها والفاهم لمقتضاها والواقف على لوازمها ؟
وبهذا أدندن على أهمية العلم الشرعي للمجاهدين ، وأهمية الرجوع للعلماء الثقات الأثبات ـ ولن تعدمهم الأمة ـ وإلا ستدور علينا الدوائر ، وسنحفر بأيدينا قبورنا ، وسنجني على أنفسنا وديننا من حيث أردنا الإحسان إليه ، ورضي الله عن عبد الله بن مسعود حين قال : رب مريد للخير لم يصبه !
وإذا تاهت الخطوات ضللنا الطريق ، وإذا سقطت منائرنا فأنَّى للآذان أن تسمع لصوت الأذان !!